31/12/2022 - 22:17

حوار مع د. غانية ملحيس | في المأزق الفلسطيني والعربي الراهن

التعافي الفلسطيني أولا هو الكفيل باستنهاض وحشد الشعوب العربية والإسلامية وقوى التحرر والسلام على امتداد العالم، ولا أستثني من ذلك يهود إسرائيل ويهود العالم عندما يتيقنون أن خطر دعم الصهيونية

حوار مع د. غانية ملحيس | في المأزق الفلسطيني والعربي الراهن

(Gettyimages)

في مداخلة قدمتها خلال برنامج حواري لمركز "مسارات" تحت عنوان "بدائل وخيارات"، طرحت د. غانية ملحيس رؤية مغايرة لفهم أسباب المأزق الفلسطيني الراهن تتجاوز المحطات التقليدية المعروفة، مثل أوسلو والانقسام وأزمة منظمة التحرير البنيوية، لتطال أساسات المشروع الوطني الفلسطيني ورؤيته السياسية الإستراتيجية.

وجاءت هذه المداخلة في محاولة للإسهام في الإجابة عن تساؤلات واجبة، يتعذر مع استمرار غيابها أن تلمس السبل للنهوض الفلسطيني وتوفير موجباته للتأسيس لمستقبل فلسطيني مغاير مرغوب؛ على حد تعبير ملحيس.

وأشارت إلى أن أول هذه التساؤلات يتعلق بأسباب تواصل الهزائم المتتابعة على مدى أكثر من قرن، رغم امتلاكنا الحق والتاريخ والجغرافيا والديمغرافيا والعمق الحضاري العربي - الإسلامي، ورغم التضحيات الجسيمة التي لا تزال تبذلها الأجيال الفلسطينية المتتابعة.

ويتعلق ثانيها بمدى مساهمة الخارج وبمسؤوليتنا الذاتية الفلسطينية عن تشكيل وقائع الحاضر المظلم. لأن تفعيل الخارج في دعم القضية الفلسطينية ممكن، لكنه رهن بتغير الذات أولا.

والأدلة على ذلك عديدة، لعل أبرزها التضامن العالمي الواسع مع هبة الكرامة في أيار/مايو عام 2021، وأحدثها ما شهدناه في المونديال الأخير بقطر. وحجم الدعم والتعاطف الهائل للشعوب العربية والأجنبية كافة مع الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة. ورفضها المطلق للسياسات والسلوكيات العدوانية والعنصرية للكيان الصهيوني.

غير أن تحويل هذا التعاطف والتضامن والدعم إلى فعل سياسي مؤثر يجبر أصحاب القرار العربي والدولي على تغيير وتصويب مواقفهم لنصرة الحق الفلسطيني، يحتاج إلى أن يتغير الفلسطينيين أولا على صعيد الفكر والرؤية والمناهج والسلوكيات والأدوات التنظيمية والمؤسسية، وإثبات أهليتهم في الدفاع عن قضيتهم العادلة. والتاريخ الإنساني المدون قديما وحديثا حافلا بالشواهد التي تؤكد محورية العامل الذاتي في تفعيل وتغيير الخارج.

وكما أشرت في مداخلتي آنذاك، بحسب ملحيس، لا أتفق مع غالبية النخب الفلسطينية التي تربط أسباب المأزق الراهن باتفاق أوسلو، والانقسام، والأزمة البنيوية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وترهل النظام السياسي، وتردي الأداء الفلسطيني. ولا أنكر دورها في تفاقم المأزق وتعميقه. لكنني لا أراها سوى أعراض وتجليات للمأزق المزمن الذي يعيشه الشعب الفلسطيني منذ الهزيمة الكبرى التي منيت بها الأمة العربية - الإسلامية في الحرب العالمية الأولى، والهزائم المتتالية التي أعقبتها، واستمرار عجزنا في تلمس سبل التعافي ومستلزماته رغم مرور أكثر من قرن.

"عرب 48": إذًا، إلى أين تمتد جذور الأزمة، علما أن البعض قد يدعي أن العودة إلى الأساس هو محاولة للتهرب من مواجهة مشكلات الحاضر وازماته؟

ملحيس: أعتقد أن التعافي سيبقى متعذرا دون التمعن في الأسباب الرئيسة التي أدت إلى الهزائم، ودون تحديد المسؤوليات الذاتية، بلا استهانة أو مغالاة، فالتشخيص الدقيق للمرض ثلثي العلاج، وتوفير أساس معرفي مرجعي يمكننا من معرفة الأسباب الذاتية للهزائم بدقة هو السبيل الوحيد للنجاح في بلورة رؤية للنهوض، وترجمتها في مشروع تحرري إنساني نقيض للمشروع الاستعماري الصهيوني ومؤهل لهزيمته، وإستراتيجيات بعيدة ومتوسطة وقصيرة المدى، وخطط عمل ذات أولويات واضحة وأهداف محددة قابلة للتحقق وفق جداول زمنية، تتراكم مفاعيلها عبر الأجيال المتتابعة، وتؤسس لتصويب اعوجاج مسار التاريخ الفلسطيني.

إذ إن التعافي الفلسطيني أولا هو الكفيل باستنهاض وحشد الشعوب العربية والإسلامية وقوى التحرر والسلام على امتداد العالم، ولا أستثني من ذلك يهود إسرائيل ويهود العالم عندما يتيقنون أن خطر دعم الصهيونية والعنصرية سيطالهم، ويدركون مصلحتهم بالانخراط في النضال التحرري لتفكيك المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني العنصري. فالوعي المعرفي يشكل قوة عظمى تفوق كل الأيديولوجيات في التخطيط لتغيير مصائر الشعوب، لأنه يعتمد على المعرفة في تشكله وتنميته، ويسبق الفعل ويوجهه، خلافا للوعي الحسي التالي لوقوع الحدث، الذي اعتدناه منذ قرون، وما نزال نبني عليه سياساتنا وإستراتيجياتنا ويحتجزنا في دائرة ردود الأفعال على مستجدات يستحدثها ويتحكم بها العدو، لتكريس الوقائع التي ترفع كلفة مقاومته، وتطيل أمد بقائه.

"عرب 48": ماذا تقصدين بالوعي المعرفي في السياق الفلسطيني، ولماذا هو مهم للتأسيس للنهوض؟

ملحيس: الوعي المعرفي الذي أعنيه ويتعين على الشعب الفلسطيني والشعوب العربية امتلاكه للتأسيس للنهوض، هو ذاك الذي يتعامل مع الحاضر باعتباره حلقة في سلسلة زمنية متصلة، ومرحلة وسطى بين الماضي والمستقبل. ويدرك بالقراءة المتفحصة لصيرورة التّاريخ أن حقائقه القائمة ليست قدرا محتوما، وأنها تشكلت نتيجة لتفاعل منظومة متكاملة يتوجب علينا التمعن في بنيتها، والبحث في أسباب وظروف تشكلها، ومصادر قوتها، والتعرف على مكوناتها القيمية والفكرية، وعلى تركيبة القوى الرئيسة فيها وأهدافها وتشابكات مصالحها، كما أنه يسعى إلى فهم صيغ وآليات تفاعلها داخليا وخارجيا.

فتغيير الواقع القائم المأزوم يبقى متعذرا، دون تفكيك المنظومة التي أفضت إليه وشكلت وقائعه، ودون تبين مستلزمات وسبل ووسائل إعادة تركيب منظومة جديدة مغايرة مؤهلة، قادرة على خلق الوقائع المستهدفة تباعا للتأسيس للمستقبل المرغوب بلوغه.

ونقطة الانطلاق في بلورة الوعي المعرفي الفلسطيني للتأسيس للمستقبل المرغوب تبدأ أولا بفهم الأهمية الجيو - إستراتيجية للمنطقة العربية - الإسلامية الممتدة، ودورها الحاسم في تشكيل التاريخ الفردي والجمعي لشعوبها عبر العصور، حيث تتموضع في مركز العالم، وتشرف على خطوط التجارة والملاحة والاتصالات والمواصلات الدولية، وتمتلك ثروات طبيعية ومعدنية وفيرة لا تزال تشكل عصب الاقتصاد الدولي، ما جعل السيطرة عليها عنصرا مرجحا في موازين القوى على الصعيد العالمي، ووضعها على الدوام في دائرة استهداف القوى الدولية الصاعدة الساعية للتربع على عرش القيادة العالمية.

وبالإدراك ثانيا لحقيقة أن هذه المنطقة الحيوية تسكنها منذ آلاف السنين، شعوب متعددة القوميات متنوعة الأعراق والاثنيات والألوان والأديان والعقائد والمذاهب، تتكامل مواردها وتتشابك مصالحها، وتنتمي إلى حضارة واحدة جامعة حفظت استقلالها وتسيدها على مدى قرون طويلة.

وبالرغم من نجاح الغزاة الأجانب في اختراقها وتقسيمها وتفريق دولها واستقطاب بعض نخبها، إلا أن ما يجمع مكوناتها الأصيلة كافة، أكثر بكثير مما يفرقها، إذ يتشارك التاريخ والجغرافيا والحضارة والإيمان بوحدة المستقبل والمصير.

وبالوعي ثالثا بمحدودية حجم فلسطين جغرافيا وديمغرافيا، وفرادة موقعها في مركز الوصل والفصل الجغرافي والديمغرافي والحضاري بين مشرق الأمة ومغربها، وقداستها لأتباع الديانات السماوية الثلاث التي يدين بها ثلثي البشرية، ما يجعل السيطرة على فلسطين هدفا مركزيا للقوى الاستعمارية على مر العصور، ليس لذاتها كما قد يعتقد الكثيرون، وإنما لأهمية وسهولة توظيف خصوصيتها من قبل القوى الاستعمارية الطامعة لإخضاع عموم المنطقة العربية - الإسلامية الممتدة وتسيد العالم.

"عرب 48": هذا الموقع بتميزه وفرادته التي تحدثت عنهما هو ما جعل فلسطين تاريخيا محط أطماع القوى الاستعمارية والغازية..

ملحيس: لقد تعرضت فلسطين عبر تاريخها الممتد لآلاف السنين، لغزو كافة الإمبراطوريات التي حكمت العالم، وشهدت، أيضا، استعمارا استيطانيا إجلائيا - إحلاليا أجنبيا قبل نحو عشرة قرون، استظل آنذاك بالدين المسيحي / الاستعمار الإفرنجي - الصليبي، واستطال بقاءه قرنين من الزمن. واليوم يتكرر ذات المشهد وتعيش فلسطين ذات الاستعمار الاستيطاني الأجنبي الإجلائي - الإحلالي، ويستظل الغزاة هذه المرة بالدين اليهودي.

وتشير الدلائل إلى أن الأمة وشعوب المنطقة لم تتعلم شيئا من تاريخها الثري بالعبر، فأغفلت أسباب إخفاقها في الماضي ما تسبب بهزيمتها في الحاضر، ولم تتبين حتى الآن موجبات ومستلزمات النهوض لاستعادة حريتها واستقلالها وسيادتها واستئناف دورها الحيوي في إثراء الحضارة الإنسانية، ولا يزال الشعب الفلسطيني وقواه ونخبه عاجزون عن إدراك مركزية فلسطين في النهوض، كما الأفول على السواء، وأنها كما وصفها شاعرنا محمود درويش بدقة، "أم البدايات وأم النهايات".

هذه القضايا التأسيسية التي أعتقد أن إغفالها كان، ولا يزال، السبب الرئيسي في المآزق المتتابعة التي لا تزال تتوالى على بلادنا العربية من محيطها إلى خليجها، منذ نجاح الغزوة الاستعمارية الغربية في القرن الثامن عشر واحتلال دول المغرب العربي ومصر والسودان واليمن والخليج العربي، ثم توغلها في المشرق العربي بعد انتصارها في الحرب العالمية الأولى، الذي أسهمت به وسرعته الثورة العربية الكبرى بتحالف قادتها مع بريطانيا ضد ظلم الحكم العثماني، الذي استفحل بعد انقلاب تركيا على دولة الخلافة.

دون أن يمنعها ذلك (بريطانيا) من التنكر لتعهداتها لقادة الثورة ببلوغ الاستقلال، واتفاقها مع الفرنسيين بالاستحواذ على إرث الإمبراطورية العثمانية وتقاسمه، وتوافقهم سويا عام 1916، اتفاقات سايكس – بيكو، على إعادة هندسة المنطقة العربية - الإسلامية الممتدة، والحيلولة دون نشوء إقليم وازن فيها، يمكنه مستقبلا من استعادة السيطرة على عموم المنطقة.

كل ذلك لتسهيل تقسيمها وفقا لأسس قومية وعرقية وإثنية: تركية وفارسية وعربية وتجاوز الأكراد، ومنع نشوء إقليم عربي واحد على وجه الخصوص، عبر تفتيت الجغرافيا العربية إلى كيانات قطرية متنافسة، وزرع الكيان الاستيطاني الغربي الصهيوني في فلسطين، التي تشكل مركز الوصل والفصل الجغرافي والديمغرافي والحضاري بين مشرق الأمة ومغربها.

وغني عن القول إن الأمة العربية وشعوبها كافة، لا تزال تواجه تداعيات هذه الهزيمة، ولم تتمكن بعد، من التعافي، رغم التضحيات الجسيمة التي قدمتها الشعوب العربية عموما والشعب الفلسطيني خصوصا، ولا تزال، على امتداد أكثر من قرن، وذلك لعجز وتقاعس النخب والقادة عن البحث والتمعن في المسؤولية الذاتية عن الهزيمة والمآزق المتتابعة، وهو أمر لا غنى عنه للتأسيس للنهوض.

"عرب 48": ولكن الهزيمة التي تتحدثين عنها عمرها أكثر من 100 سنة، فلماذا لا تستطيع الأمة وشعوبها من تجاوزها بعد؟

ملحيس: دعنا نشير إلى الأسباب الرئيسة لإخفاق الثورة العربية الكبرى في بلوغ أهدافها بالاستقلال ويمكن إيجازها بخمسة اسباب:

الأول: هو التخلف البنيوي المتراكم منذ أن تخلى العرب عن العلم والمعرفة، وتاهوا في الصراعات البينية على الحكم والنفوذ، واستعاضوا عن قوتهم الجمعية بقوى جزئية قبلية وعشائرية وطائفية ومذهبية تتنافس في ما بينها، ففقدوا مناعتهم الفردية والجمعية، وانكشفوا أمام القوى الخارجية التي نهضت ووظفت منجزات الحضارة الإنسانية التي سبق للعرب الإسهام في إثرائها، وتعلموا منها، وراكموا عليها، فتملكوا عناصر القوة التي مكنت العرب في العصور الوسطى، ثم تخلوا عنها طوعا فهزموا.

الثاني: هو عدم استرشاد قادة الثورة العربية الكبرى برؤية قومية عربية جامعة، أسوة بالقوى الإقليمية التركية والفارسية، وافتقارهم إلى مشروع عربي تحرري قادر على جمع شتات الأمة، وتحقيق الاستقلال في لحظة مصيرية، تعاد فيها هندسة المنطقة بأسرها.

الثالث: هو افتقار قادة الثورة إلى فهم صحيح لمحورية موقع فلسطين في إنجاز الاستقلال العربي للدول فرادى وللأمة مجتمعة، واستعدادهم لمقايضة استقلال فلسطين باستقلال الأقطار العربية المستحدثة.

الرابع: هو ضعف المناعة الذاتية العربية بسبب تخلف البنى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعسكرية والمؤسسية العربية الموروثة عن الحكم العثماني الطويل.

والأخير: هو وثوق قادة الثورة العربية الكبرى بالوعود البريطانية رغم وضوح مقاصدها ومخططاتها، واعتمادهم عليها عسكريا واقتصاديا، وتعويلهم على العون الذي تقدمه لبلوغ الاستقلال.

"عرب 48": تريدين القول إنه حتى اليوم ما زالت تلك الأسباب هي التي تعيق انتصار حركة التحرر الوطني العربية والفلسطينية وتمنعها من تحقيق أهدافها اسوة بشعوب المنطقة الأخرى؟

ملحيس: لا تزال الحركة الوطنية الفلسطينية خصوصا والعربية عموما أسيرتين لذات النهج، فيما لا يزال القادة على ذات الجهل المعرفي بمسببات الهزائم وبشروط النهوض، وما تزال الزعامات الوطنية والقومية والإسلامية المتنفذة تكرر ذات الخطايا، ولا تتعلم من دروس تجارب أسلافهم المريرة.

ولا يزال الشعب الفلسطيني والشعوب العربية عاجزين عن بناء منظومة بديلة مؤهلة قادرة على عكس مسار التدمير الذاتي الجاري بتسارع على امتداد الوطن العربي من مشرقه إلى مغربه، ومن شماله إلى جنوبه. ولا نزال غير قادرين على فرز قيادات وطنية مؤهلة تمتلك رؤى نهضوية، وتبلور مشاريع تحررية في مواجهة القوى الاستعمارية الأجنبية، وتحشد الإمكانات الذاتية الوفيرة، وتؤطرها وتنظمها، وتوظف التضحيات الجسيمة لشعوبها في فعل مؤثر قادر على تصويب المسار والتأسيس لمستقبل مغاير أفضل.

"عرب 48": ولكن هل الخلل الجوهري الكامن في الأساس يحجب أو يقلل من الانكسارات والأزمات التي وقعت خلال المسيرة، وفاقمت من المأزق، على غرار أوسلو والانقسام وأزمة منظمة التحرير وغياب التكامل والديمقراطية وغيرها؟

ملحيس: الانكسارات والأزمات التي ذكرتها على غرار أوسلو والانقسام وأزمة منظمة التحرير وغياب التكامل والديمقراطية ليست سوى نتاج تراكمي لإغفال الأسباب التي سبق ذكرها، ولعدم التوافق الفلسطيني والعربي حتى الآن على تعريف واضح ومحدد لطبيعة المشروع الصهيوني: هل هو مشروع استعماري استيطاني يهودي في فلسطين قائم بذاته، كالنماذج الاستعمارية الاستيطانية في أميركا وكندا ونيوزيلاندا وجنوب إفريقيا؟ أم أنه بالإضافة لذلك، يشكل جزءا من مشروع عام للقوى الدولية المتنفذة الساعية لإخضاع عموم المنطقة العربية – الإسلامية الممتدة، ويستهدف تكريس تجزئتها وعرقلة تطورها، وتعطيل فرص نهوضها ومنعها من استعادة التعاون والتكامل بين شعوبها الأصيلة لامتلاك القوة والمناعة لبلوغ تطلعاتها الفردية والجمعية في الاستقلال والحرية؟

لم يحسم الفلسطينيون والعرب والمسلمون حتى اللحظة، علاقة المشروع الصهيوني الخاص بإقامة دولة يهودية في فلسطين على أنقاض الشعب الفلسطيني بالمشروع الإمبريالي العام للسيطرة على عموم المنطقة العربية - الإسلامية الممتدة بالرغم من توفر الشواهد التاريخية على الرعاية الاستعمارية الغربية للمشروع الاستيطاني اليهودي في فلسطين، منذ كان فكرة أطلقها الألماني مارتن لوثر، زعيم حركة "الإصلاح الديني" الذي قاد انشقاق البروتستانت القرن السادس عشر، وإعلانه بأن اليهود ليسوا جزءا من النسيج الاجتماعي الغربي وطرح فكرة توطينهم في فلسطين.

وهي الفكرة التي تلقفها التاجر الدانماركي أوليغربولي عام 1695، حين أعد خطة لتحقيق ذلك وعرضها على الحكومات الأوروبية الساعية للاستيلاء على إرث الإمبراطورية العثمانية الآيلة للسقوط، وتبناها نابليون بونابرت رسميا عام 1799 أثناء حملته التوسعية لاحتلال المشرق العربي، وناقشتها الدول الأوروبية في مؤتمر لندن عام 1840 الذي عقدته لوقف تقدم جيش محمد علي والي مصر في سورية وإجباره على التراجع والانكفاء داخل حدود مصر.

"عرب 48": تقصدين أن الصهيونية هي فكر أوروبي يعود تاريخها إلى ما قبل تأسيسها كحركة سياسية بمئات السنين؟

ملحيس: لقد وجد بعض زعماء اليهود في تبني الغرب لفكرة الاستيلاء على فلسطين وتوطين اليهود فيها فرصة مواتية لإقامة مركز مسيطر لهم في فلسطين، فأسسوا عام 1870 أول مسـتوطنة يهودية (مكفا يسرائيل) وتعني أمل إسرائيل في لواء القدس، وأقاموا مستوطنة بيتاح تكفا شرق يافا عام 1878. ثم تسارع الاستيطان اليهودي في فلسطين بالتزامن مع احتلال بريطانيا لمصر عام 1882، فوصلها في نفس العام ثلاثة آلاف يهودي من أوروبا الشرقية، وتم إنشاء ثلاث مستوطنات، هي ريشون لتسيون وزخرون يعكوب وروش بينا، وفي العام 1883 أنشئت مستوطنتي يسود همعلاة وعفرون، ووصل عدد المستوطنات اليهودية في فلسطين قبل انعقاد المؤتمر الصهيوني العالمي الأول في بازل بسويسرا عام 1897 إلى 17 مستوطنة وارتفع عددها قبيل انعقاد المؤتمر الثاني عام 1898 إلى 22 مستوطنة.

وأقر المؤتمر قانون المنظمة الصهيونية العالمية، التي تولت رسميا كافة الشؤون المتعلقة بالاستيطان، ووضعت الخطط لاستبدال فلسطين بإسرائيل، واستبدال شعبها العربي الأصلاني باليهود الذي يتم استجلابهم بداية من أوروبا، لضمان بناء الدولة اليهودية وفق النسق الغربي فيما لعبت المؤسسات الصهيونية التي أنشئت بدعم غربي، دورا كبيرا في تسريع الاستيطان.

"عرب 48": ربما تكمن أسباب فشل العرب والفلسطينيين بإخفاقهم في فهم أسباب نجاح المشروع الصهيوني؟

ملحيس: لم تهتم القيادات الفلسطينية والعربية والإسلامية حتى اللحظة بدراسة أسباب نجاح المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني في فلسطين، منذ كان فكرة عارضتها الغالبية العظمى من يهود أوروبا والعالم، واستمرت في معارضته بعد أن تبلور كمشروع خاص للحركة الصهيونية، ولم يحاولوا معرفة كيف نجحت الحركة الصهيونية في تسويق المشروع دوليا، على الرغم من افتقاره عند إطلاقه رسميا إلى المقومات الأساسية المتصلة بالحق والتاريخ والجغرافيا والديمغرافيا.

لم يدرسوا كيف استطاعت هذه الحركة تحقيق المشروع فعليا في زمن قياسي (50 عاما) وبكلفة زهيدة، وكيف نجحت في تأسيس الدولة وإقامة مرتكزاتها المادية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعسكرية والقانونية والمؤسسية قبل إعلان قيامها، ما مكنها من الاستيلاء على نصف المساحة التي خصصها النظام الدولي، الذي أنشأته القوى الدولية المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، للدولة العربية، بالإضافة إلى الـ55% من مساحة فلسطين الانتدابية الذي خصصها قرار التقسيم رقم 181 للدولة اليهودية، رغم أن اليهود لم يشكلوا عند إصدار القرار عام 1947 سوى 31% من إجمالي سكان فلسطين.

لم يلفتهم كيف نجحت الدولة اليهودية المستحدثة في الحصول على اعتراف النظام الدولي بحقها في الوجود، رغم خرقها لقرار التقسيم، وعدم التزامها بتنفيذ قرار رقم 194 الذي أصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1948 والخاص بعودة اللاجئين الفلسطينيين وتعويضهم، رغم أن نفاذهما كان شرطا لقبول عضوية الدولة اليهودية المستحدثة في الجمعية العامة للأمم المتحدة بموجب قرارها رقم 273 الصادر عام 1949.

هذا القرار الذي جاء بعد شهرين فقط من اختراق إسرائيل لاتفاق الهدنة مع مصر الذي أدانته الأمم المتحدة آنذاك، واحتلالها بلدة أم الرشراش المصرية الواقعة في الطرف الشرقي من شبه جزيرة سيناء والمطلة على البحر الأحمر، وتحويلها إلى ميناء بحري وجوي تمر منه 40% من تجارتها الخارجية، ويمتد منه خط انابيب يغذي شمال إسرائيل بالنفط، لتقطع بذلك، كليا تواصل مصر البري مع دول المشرق العربي.

"عرب 48": وربما القضية ليست فقط قضية إدراك فهناك الكثير من الأشياء تمر بإدراك ووعي كاملين؟

ملحيس: لم يدرس الفلسطينيين والعرب والمسلمين حتى الآن، الأسباب الحقيقية لشن عدوان حزيران/يونيو عام 1967، رغم أن الوثائق الاسرائيلية التي درسها المؤرخون الإسرائيليون الجدد، كشفت أن التخطيط لشن العدوان بدأ في مطلع الستينيات، وليس كما أشيع وصدقه الجميع كرد فعل على إغلاق الرئيس عبد الناصر لمضيق تيران. لم يدركوا بعد أن استكمال احتلال كامل فلسطين الانتدابية يأتي في سياق استكمال تنفيذ وعد بلفور، واستكمال استبدال فلسطين بإسرائيل، واستبدال شعبها العربي الفلسطيني بالمستوطنين اليهود.

ولا يزال الفلسطينيون والعرب يغفلون أهمية الدور الذاتي للحركة الصهيونية في تحقيق الانتصارات، ويرجعونها لدعم القوى الدولية المتنفذة المنتصرة في حربين كونيتين، ودون التقليل من الدور الذي لعبته القوى الاستعمارية المتنفذة في تنفيذ المشروع الاستيطاني الصهيوني وحمايته وتمكينه من التحول إلى قوة إقليمية ودولية وازنة، إلا أنه لا يمكن إنكار الدور الذاتي للحركة الصهيونية، الذي يوازي وقد يفوق في أهميته الدعم والرعاية الدولية، ونجاحها الملفت في تنفيذ مشروعها الخاص بإقامة مركز مسيطر لها في فلسطين، خلال نصف قرن من العمل الدؤوب في توفير مرتكزاته الديمغرافية، وإرساء وتطوير بناه الذاتية الاقتصادية والاجتماعية والمؤسسية والعسكرية.

ولا زالوا يتفاجؤون بسلوك الدولة اليهودية التي تعلن حكوماتها على الملأ امتلاكها لحقوق حصرية لليهود منحها الخالق لشعبه المختار، فيما تسميه أرض إسرائيل الكاملة، القابلة للتوسع من النيل إلى الفرات، كلما سمحت قوتها العسكرية بذلك، وما زالوا يعولون على المجتمع الدولي في إنصافهم، رغم وضوح احتكامه لقانون الغاب.

كما لم ينفك القادة الفلسطينيون والعرب والمسلمون من الاقتتال فيما بينهم وهم يشهدون تحول الدولة اليهودية إلى قوة إقليمية وازنة تحتكر امتلاك السلاح النووي، ويتسابقون على التحالف معها لنصرتهم على أشقائهم، و ينخرط بعضهم في تنفيذ مشاريعها التدميرية لإخضاع كل من يجرؤ بالتمرد عليها، ويأبى التسليم لها بقيادة الشرق الأوسط.


د. غانية ملحيس: باحثة وكاتبة اقتصادية وسياسية فلسطينية حاصلة على شهادة الدكتوراة في الاقتصاد السياسي من جامعة صوفيا في بلغاريا. عملت في مؤسسة صامد بلبنان وتولت مسؤولية التخطيط والمتابعة وشغلت موقع نائب المدير العام للمؤسسة حتى عام 1982. عملت في جامعة الدول العربية منذ العام 1984 في تونس والقاهرة وشغلت مواقع عديدة في الإدارة العامة للشؤون الاقتصادية وإدارة فلسطين بالجامعة.

أعارتها الجامعة عام 1995 للسلطة الفلسطينية للمساعدة في تأسيس وزارة الاقتصاد. حصلت على إجازة بدون راتب وتولت منصب مدير عام معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني/ ماس للفترة 1998-2004، وعادت بعدها للعمل في جامعة الدول العربية وانتخبت لرئاسة مجلس أمناء المعهد خلال الفترة 2007-2010. لها عشرات الأبحاث والدراسات والمقالات المنشورة في المجالات الاقتصادية والسياسية وهي مهتمة بالمراجعة النقدية لتجربة الحركة الوطنية الفلسطينية.

التعليقات